الخلفية التاريخية والثقافية المنتجة لحملات الجنجويد الإنتقامية
ابو فاطمة احمد اونور
*من أدرك خواتيم السياسة زهد في حوافز سلطانها، لما يكتنف من سوء منقلب شاغليها، بمتلازمة نكران الجمهور لأدني جميل لأي سياسي مهما أخلص، ربما إلا بعد وفاته كنوع من نسك ذكر محاسن الموتي، ولأن العاطفة الجمعية متطرفة المشاعر، فتنسب للمرحوم ما أنجزه ومالم ينجزه، وقد تنسج حوله بعض من الإنجازات والبطولات الأسطورية كنوع من أدب المناحة الأسرية ولكنها للأسف سرعان ما تتسرب كمسلمات الي متن التاريخ الوطني فتشوش علي الواقع الإجتماعي والسياسي عبر المنظومات الطائفية والأهلية القائمة علي الأمجاد المتوارثة، بغية تسجيل نقاط بطولية علي الراهن المستلب والمستكين، تثبيتا لإرثها وحفاظا علي إمتيازاتها بهكذا تعظيم حظوظ تاريخ زائف يختلق أجندة زائفة بطبيعة الحال، وهو ما يحتشد به تاريخنا المدرسي بشكل إنتقائي وفق فلسفة تربوية تبتغي تشكيل أيقونات وطنية في وجدان النشئ، لكنها للاسف أفرزت دوما تحدى غير واقعي وبمعايير ظالمة لقادة وساسة الراهن ما أدى لإفشالهم: من خلال ثقافة التخوين والتخزيل بالمقارنة الظالمة مع القامات الأسطورية المستمدة من نماذج المعجزات التاريخية الغير موثقة علميا، وبناءا عليها صار المجتمع يجترح السؤال الجاحد: ماذا أنجز فلان وعلان بشغل ذاك المنصب !؟ حتي لو كان فلان مجرد عضو برلمان ولائي، مع أن المساءلة والجرد السياسي حق مكفول لأي مواطن، لكن يجب معايرة التقييم علي مناط إسناد واقعي لا إفتراضي، لذلك ينبغي الموازنة بين الغاية من مقررات التاريخ التربوى المنوط بالنشئ من جهة والتاريخ الحقيقي او الاكاديمي الخاص بالجامعات والباحثين من جهة أخرى ، تجنبا للآثار الجانبية المنتجة للطموح الجامح للمجتمع في طلب قيادات ملائكية بناءا علي سرديات شعبية مصنوعة، فصار المجتمع لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، واصبح لا يري سوى الشوك في الورود وعصي موسي في المنصب السياسي، جازما بأن للسلطة مقدرات سحرية خارقة قد تصنفر النجوم وتجيير السماء!! في دولة عاجزة عن ابسط المقومات وتفتقر لثقافة المجتمع المدني الذي يعتبر قوامة الدولة الحديثة، ما أدي به للحكم علي كل سياسي بالفشل المسبق وهو ما يعزز القاعدة المأثورة: بأن السياسي يصحح له ب50٪، أي أنه ساقط لا محالة، لذلك ففي ظل الواقع السوداني البئيس يصبح التهافت لشغل موقع سياسي كمن يوقع علي شيك مؤجل يستحيل تغطيته وتسديده، ولكن بما أنه لابد من شغل تلك المواقع لاستمرار أقدار الحياة وتدوير دولاب الدولة علي علاته، فهذا بالضرورة يقتضي من المجتمع خفض رهان التوقعات الحالمة بما يتناسب مع المعطيات المتاحة، حتي لا تتحول كل الكوادر الوطنية الي خرد سياسية مهما أخلصت النوايا وكثفت الجهود، لأن إنتشار ثقافة التخزيل والتخوين سرعان ما تلقي باي منجز في مذبلة الإدانة، فيظل الحاكم المخلص ضحية كالعذباء البايرة رغم الجمال والشباب والعطاء ولكن حظها العاثر أوقعها في قسمة بعل يطلب المحال، مع أن هذا لا يعفيها كليا من تحمل شطر الوزر، بسبب قبولها في لحظة شبق عابر بكل إشتراطات الخطوبة القاضية بتحقيق ذلك الربط المستحيل من مزاد الاحلام الرومانسية،!! وبهكذا عقد إجتماعي وسياسي قاصر صار حال غالبية سياسيينا كحال ذكر العنكبوت يصر علي دخول عش الزوجية رغم يقينه بحتفه علي يد الأنثي حالما قضت منه وطرا، ما جعل بيت السياسة السودانية من أوهن البيوت بإمتياز ، ليس بالمفهوم البلاغي فحسب، وإنما بالمعني الحرفي لمفردة الهوان، المجسد حصاده في الخراب المطلق للبلاد عامة والعاصمة وبعض المدن خاصة، والتي أصبحت أطلالا، بمحارق سادية لا تماثلها سوى مجازر البوسنة والهيرسك بيوغسلافيا، ومآسي الهوتو التوتسي ببورندا في 1994م، ولكن تتبرأ منها فظائع التتار ببغداد، فرغم جرائر جانكيز الذى قد يعزره التاريخ بأن بغداد لم تنتم لبلاده، ولا شعبها من بني جنسه، ولا علي دين قومه، ولكن ما الذي جعل الدعامة يستدعون مخازى التتار وحملات الدفتردار الانتقامية في 1823م، ليجردو حملات الجنجويد الانتقامية ضد مواطنيهم العزل في الخرطوم والجنينة ونيالا وزالنجي !؟ ، هل ياترى إنتقام لمقتل حميدتي !!؟ وبطبيعة الحال ليس المقصود بتجريم الدعامة في حربهم ضد الجيش فهو سجال بين العسكر، وانما يأتي الاستنكار لبشاعة إنتقام الجنجا من المواطنين العزل نتيجة التشريد والتهجير الممنهج ونهب السيارات والممتلكات وإغتصاب الحرائر وسرقة الاثاث وتشليع المنازل من أبسط المقومات، بنزعة حقد دفين وروح شريرة، تدحض تماما أي إدعاء لمثقال ذرة من مودة المواطنة المشتركة، بسلوك سادي مفضوح ينفي وجود أدني وجدان ديني مشترك بين الضحية والجلاد ، لذلك فإن ما جرى لا يدين فقط السلوك البربري للدعامة فحسب، وانما يثبت بأثر رجعي الفشل الذريع لهيكل الدولة السودانية وعجز مناهجها التربوية والسياسية منذ 67 سنة، ويؤكد سقوطها المدوى في ترسيخ الحد الأدني من قيم المبادئ الوطنية والحضارية والإنسانية المانعة علي الاقل لهكذا بربرية في حق المواطنين، لا تقدم عليها حتي الجيوش الأجنبية الغازية !!*
*وأخيرا نعتقد بأن بشاعة حرب استنزاف منازل المواطنين ربما ناتجة عن ثقافة سودانية راسخة ،بأن جل المعمار الخرطومي والحضري، قائم علي مفاسد الذمة المالية للساسة ممن إغتنموا عبر مواقعهم السلطوية ، لذلك ربما جاءت غبينة الغنائم المنزلية للجنجا كنازلة عقاب من جنس العمل، ولكن من المحزن، أنها عقوبة أخذت الغالبية العظمي بوزر أقلية لا تذكر من الفاسدين !!*
*اللهم بلغت فأشهد*