أخبار محلية
أخر الأخبار

بسم الله الرحمن الرحيم   الشعوب الأصيلة الذاكرة التي لا تُمحى

 

 

بقلم: عبدالله أوبشار

———————

 

تزحف جرافات الحداثة تحت شعارات براقة، فتقتلع الغابات، وتنسف الجبال، وتجرف الحقول، ومعها تُقتلع مجتمعات كاملة من جذورها. ليس لذنب ارتكبته، بل لأنها رفضت الخضوع لمنطق السوق ولربح أعمى لا يرى في الأرض إلا سلعة.

 

هذه الشعوب التي رأت في الأرض كتابًا مقدسًا، وفي الطبيعة هوية وكرامة، تواجه خطر المحو. ليس لعجزها عن التكيف، بل لأن المنظومة المهيمنة لا تعترف بمن يختلف عن معايير إنتاجها. ومن بين تلك الشعوب، شعب البجا، أحد أقدم شعوب المنطقة، الذي تعود جذوره إلى الألفية العاشرة قبل الميلاد، وما يزال شاهدًا على تاريخ لم ينقطع.

 

عاشت هذه الشعوب في انسجام عضوي مع محيطها، حيث كانت الطبيعة منظومة حياة؛ ترابها ذاكرة، أشجارها طقوس، وأنهارها شرايين كرامة. لكن هذه العلاقة، التي كانت مصدر قوة روحية وثقافية، صُوِّرت كعائق أمام الاستغلال الاقتصادي ونهب الموارد. فصودرت الأراضي، وطُمست اللغات، وشُوّهت الثقافات، وتفكك النسيج الاجتماعي.

 

والأخطر أن الهجوم طال الوعي ذاته؛ إذ تحولت اللغة الأم إلى تهمة، والزي الشعبي إلى موضع شبهة، والطقوس الثقافية إلى مادة للسخرية أو التجريم. مُسخت العادات، ومُحيت الرموز، حتى غُيِّب أصحابها من الخيال الوطني، وكأنهم غرباء في أوطانهم.

 

ورغم ذلك، لا يزالون يقاومون. ليس بدافع الحنين إلى الماضي، بل دفاعًا عن الحاضر وضمانًا للمستقبل، متمسكين بلغاتهم، وحكاياتهم، وأغاني أجدادهم.

 

في عام 2007، أقرّت الأمم المتحدة إعلان حقوق الشعوب الأصلية، لكنه ظل في كثير من الدول حبرًا على ورق. واليوم العالمي للشعوب الأصيلة يجب أن يكون لحظة مساءلة حقيقية، لا مناسبة فولكلورية تُستغل للتجميل الإعلامي.

 

هذه الشعوب ليست هوامش ولا ديكورًا ثقافيًا؛ إنها جزء أصيل من الجذر الوطني والإنساني. إنصافها ليس خيارًا ترفيًّا، بل استحقاقًا أخلاقيًا وعدالة مؤجلة. فلا تنمية على أنقاض الذاكرة، ولا وحدة وطنية مع تهميش الأطراف.

 

ليس التنوع خطرًا على الأوطان، بل تجاهله هو الخطر الحقيقي. حين تُمحى ذاكرة الشعوب الأصيلة، تُمحى معها ركائز الاستقرار ومعالم الهوية. والعدالة تجاه هذه الشعوب ليست التزامًا أخلاقيًا فحسب، بل استثمارًا في بقاء الدولة نفسها. فمن يهدم جسره مع تاريخه، يعبر إلى مستقبل هش، لا يملك فيه ما يحميه من السقوط.

 

9 أغسطس 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى