أخبار محلية

 استنزاف المركز: من السيطرة على الأرض إلى إدارة الزمن في الحرب السودانية


 

ما يجري في السودان لا يمكن فهمه بوصفه صراعًا على المدن أو سباقًا نحو السيطرة المباشرة، بل باعتباره عملية منهجية لإعادة تعريف الحرب نفسها. ففي هذا النمط من الصراع، لا يكون الاستنزاف نتيجةً للحرب، بل يصبح هو الحرب ذاتها؛ حيث يُدار الزمن بوصفه المورد الاستراتيجي الأهم، وتُستخدم الجبهات لا لتحقيق نصر حاسم، بل لإطالة أمد الاشتباك وتعطيل قدرة الدولة على العمل كوحدة متزامنة. وبهذا المعنى، تتحول الأرض من غاية إلى وسيلة، ويتحوّل النصر من تقدّم ميداني إلى القدرة على فرض نمط اشتباك يُنهك الخصم عبر استنزاف بنيوي يفضي إلى تآكل الفعالية القتالية ونزف القدرة العملياتية على المدى الطويل.

المقصود بالمركز هنا لا يقتصر على العاصمة بوصفها رمزًا سياسيًا، بل يُفهم بوصفه نظامًا وظيفيًا مركّبًا يشمل وحدة القرار، تماسك القيادة، قابلية تركيز القوة بسرعة، إدارة الاحتياط، والحفاظ على حدٍّ أدنى من الشرعية الوظيفية أمام السكان. والمقصود بالشرعية الوظيفية ليس الشرعية السياسية أو الدستورية، بل قدرة الدولة على أداء وظائفها الأساسية—الأمن، الخدمات، والإدارة—بصورة منتظمة وموثوقة. تفوق الجيوش النظامية تاريخيًا لم يقم على العدد أو القوة النارية فقط، بل على قدرتها على إدارة هذه الوظائف بتناغم عبر منظومة القيادة والسيطرة وإيقاع قرار متماسك. غير أن هذا التفوق يتآكل حين يُجبر المركز على تغطية تعدد مسارح العمليات في الأطراف، فيتحول التفوق التنظيمي إلى عبء تشغيلي، وتتحول المناورة إلى محاولة دائمة لسدّ فجوات لا تتوقف.

في هذا الإطار، تبرز سياسة الشدّ من الأطراف بوصفها هندسة استنزاف متقدمة، لا مجرد تكتيك ميداني. ويُقصد بها نمطٌ استراتيجي لإدارة الصراع يقوم على تشغيل الجبهات الطرفية وفتح جبهات متزامنة بما يفوق قدرة الجيش النظامي على الاحتواء المتزامن، ودون السعي إلى حسم مباشر أو سيطرة حضرية كاملة. جوهر هذه السياسة هو تعطيل ميزة الخطوط الداخلية، وإجبار المركز على الانتقال من المبادرة إلى الاستجابة، ومن اختيار زمان ومكان الفعل إلى إدارة الطوارئ القسرية وسدّ الفجوات. في هذا النموذج، تتحول الأطراف إلى أدوات ضغط وظيفي تُستخدم لإطالة زمن الحرب، ورفع كلفة القرار، واستنزاف الاحتياط، وإرباك منظومة القيادة والسيطرة عبر تشتيت الجهد القتالي وتوزيع القوة بدل تركيزها.

التحول الأخطر في الحرب السودانية هو انتقالها من صراع مكاني إلى صراع زمني. هنا لا يُطرح السؤال: من يسيطر على ماذا؟ بل: من يستطيع الصمود أطول؟ من يُجبر خصمه على اتخاذ قرارات أكثر، وأسرع، وبمعلومات أقل؟ الزمن، في هذا النموذج، لا يعمل بالضرورة لصالح الطرف الأقوى، بل لصالح الطرف الأقدر على إدارة الإدامة القتالية دون الانكشاف الكامل. ولهذا تُدار الجبهات الطرفية بطريقة لا تهدف إلى الانتصار، بل إلى تحييد الحسم وتعليق النصر، بما يحوّل الصراع إلى حرب طويلة النفس.

ضمن هذا المنطق، تكتسب الجبهة الشرقية—وخاصة ولاية النيل الأزرق—أهمية استثنائية لا لضعفها العسكري، بل لقابليتها التشغيلية العالية. فهي بيئة عمليات معقّدة تتسم بحدود مرنة ومساحات تشغيل رخوة، وقريبة بما يكفي من العمق الداخلي لإحداث أثر إداري وخدمي سريع، وبعيدة بما يكفي لتفادي الحسم السريع. هذه الخصائص تجعل الجغرافيا كعامل عملياتي فاعلًا في الصراع، لا مجرد مسرح له، إذ تتحول الحدود من خطوط سيادة صلبة إلى مساحات عمل تسمح بالحركة والتمويه ورفع كلفة الرد دون تحمّل كلفة مواجهة تقليدية مباشرة، وتُنتج مسرح عمليات مفتوح قابلًا لإدامة الضغط.

وتشير تقديرات متداولة إلى تحركات عسكرية ولوجستية عابرة للحدود في هذا النطاق، بما يعكس نمط تشغيل يعتمد على بناء قدرة طويلة الأمد لا على هجوم خاطف. حتى في غياب معارك واسعة، فإن هذه التحركات—إن صحت—تُقرأ بوصفها مرحلة تأسيس: تموضع مرن، إعداد بيئة تدريب وتجميع، وإدامة ضغط مضبوط ينسجم مع نموذج الاستنزاف القابل للإدارة والاشتباك منخفض الحدة. في هذا النموذج، لا يُراد للجبهة أن تُحسم، بل أن تظل مفتوحة بما يكفي لإنتاج القلق والإنذار ، غير أن جوهر هذا النمط لا يكمن في الجغرافيا وحدها، بل في حرب القرار. فسياسة الشدّ من الأطراف لا تستهدف القرار العسكري في لحظته فقط، بل دورة اتخاذ القرار كاملة: من جمع المعلومات، إلى التقييم، إلى إصدار الأمر، إلى التنفيذ، ثم إعادة التقييم. ومع تعدد الجبهات، تتعرض هذه الدورة إلى ضغط القرار المستمر، فتُتخذ القرارات على إيقاع أسرع من اكتمال الصورة، ويظهر شلل القرار الجزئي، وتُستهلك الاحتياطات في الرد بدل المبادرة، ويصبح الخطأ الصغير قابلًا للتراكم. بهذا المعنى، يتحول القرار نفسه إلى مورد نادر ومُرهِق، ويحدث انكسار التزامن القيادي وفقدان زمام المبادرة.

هذا ما يفسر قيمة الإنذار المستمر في هذا النوع من الحروب. فالجبهة الطرفية لا تحتاج إلى التقدّم كي تكون مؤثرة؛ يكفي أن تُنتج إنذارًا متكررًا. كل إنذار يستهلك موارد قبل الاشتباك: استطلاع، اتصالات، تحريك وحدات، قرارات إدارية، ورسائل سياسية لطمأنة السكان. ومع تكرار الإنذار، يتحول إلى آلة استنزاف صامتة تعمل حتى في غياب مواجهات كبرى، وتدفع المركز إلى العمل في حالة طوارئ شبه دائمة، بما يفضي إلى إجهاد الوحدات وتآكل الجاهزية وتشغيل الاحتياط قبل أوانه.

يفسّر هذا المنطق أيضًا لماذا يُفضَّل التعطيل على السيطرة. فالسيطرة الشاملة على الأطراف مكلفة، بينما يسمح التعطيل بإدامة الأثر بأقل كلفة. وعندما يُوجَّه الضغط نحو المراكز الإدارية والخدمية، لا يكون الهدف احتلال المدينة، بل جعلها تعمل ببطء، وتعطيل الخدمات، ورفع الكلفة الإنسانية والسياسية على الدولة وهي تحاول الحفاظ على وظيفة الحكم. عند هذه النقطة، تتحول الحرب إلى أزمة إدارة بقدر ما هي أزمة قتال، ويصبح استنزاف الشرعية الوظيفية جزءًا من المعركة.

اقتصاديًا، تعمل الأطراف كرافعة مزدوجة للاستنزاف. ففي زمن الحرب، تصبح القيمة في التحكم في التدفقات—الوقود، السلع، الغذاء، والعبور—لا في الأرض نفسها. هذا الواقع يُنتج اقتصادًا صراعيًا يخلق حوافز للاستمرار: جبايات، وساطة، حماية مقابل رسوم، وشبكات تهريب تنمو كلما ضعف المركز، وتُفضي إلى عسكرة الاقتصاد المحلي واقتصاد الظل الحربي. ومع كل دورة من هذا الاقتصاد الرمادي، يتآكل احتكار الدولة للاقتصاد الشرعي، ويصبح الخروج من الحرب أكثر تعقيدًا، لأن الاستنزاف لم يعد مجرد أداة عسكرية، بل بنية اقتصادية موازية.

كما تسهّل الأطراف بناء تحالفات هجينة ظرفية تقوم على تقاطع مصالح لا على انسجام أيديولوجي، وتعمل ضمن منطق الحرب غير المتماثلة وبمشاركة فاعلين من غير الدول وقوى شبه نظامية. هذه الشبكات المرنة أقل كلفة من السيطرة الصلبة، وأكثر قدرة على التدوير والاستمرار، وهو ما يجعلها أداة مناسبة في حروب الاستنزاف الطويلة. وقد شوهد هذا النمط في نزاعات أخرى حين فشلت معارك الحسم، ونجحت إدارة الإدامة في إعادة تشكيل ميزان الصراع دون انتصار واضح لأي طرف.

لكن للإنكار سقفًا لا يمكن تجاوزه. فكلما طال أمد الشدّ من الأطراف، وارتفعت فوضوية الجبهات، دخل العامل الإقليمي على الخط. في هذه اللحظة، قد تنقلب الاستراتيجية من أداة لتفكيك المركز إلى عامل ارتداد استراتيجي وتصلّب المركز يعيد توحيده بدعم خارجي أكبر، بوصفه الضامن لضبط الحدود ومنع الانسكاب، وقد يقود ذلك إلى تدويل الصراع وإعادة اصطفاف إقليمي تُغيّر المعادلة العملياتية.

الخطر الحقيقي، إذن، لا يكمن في خسارة موقع أو مدينة، بل في تطبيع الاستنزاف بوصفه حالة دائمة. حين تعتاد الدولة العمل دون احتياط، وإدارة البلاد بمنطق الطوارئ المستمرة، يتحول الزمن نفسه إلى عدو. وإذا لم يُكسر هذا النمط عبر استعادة الإيقاع، وحماية دورة القرار، وتجفيف وظائف الاستنزاف، فإن الحرب قد تستمر حتى دون معارك كبرى—وتلك هي أخطر نتائجها.

د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج السودان وشرق أفريقيا، فوكس السويد
باحث أول في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى