حدود المنطق
يـراع مفطـور في رثــائيـة المهندس منصـور..
إسماعيل جبريل تيسو
(السلام عليكم يا عمو تيسو) هكذا تعـوَّدت أن اسمعها منه، سواءاً عبر الهاتف، أو عندما نلتقي في دهاليز وممرَّات الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، وكان آخر عهدي بسماعها منه في مكالمة هاتفية جرت بيننا الأسبوع الماضي قبل سفري إلى القاهرة بيوم واحد، عندما اتصل بي الراحل المقيم المهندس منصور صديق منصور الناير أو (الخواجة) كما كنت ألقَّبه لطلاقته وبراعته في اللغة الإنجليزية ولجديته في التعامل والتعاطي مع الأمور، اتصل بي الراحل المقيم مستفسراً بقلق شديد عن تأخر تصميم لوحة تعريفية لمكتبه بولاية كسلا، كان قد طلبها قبل فترة، فطمأنته أن الأمر مقضيٌّ خلال اليوم بإذن الله، فتم تصميم اللوحة التعريفية وكان ينـوي استلامها بعد عـودته من رحلته الأخيرة إلى الأبيض ليغادر بها إلى مكتبه في مدينة كسلا، ولكن يـد الموت كانت أسرع فاختطفته، واختطفت معه قلوباً مازالت تبكي دماً ووجعاً وحرقةً على فقد واحد من أنشط وأميز من عرفت من شباب الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة.
سبحان الله كان الراحل المقيم المهندس منصور الناير من أول من التقيتُ بهم لحظة أن وطأت أقدامي مباني الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة لأول مرة قبل نحو عامين، وذلك بحكم موقع الراحل منصور وقتئذٍ كمدير لمكتب السيد المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية، وقد زرت الشركة وقتها في معية وفـد للقاء المدير العام مبارك أردول، فجاء إلينا الشاب منصور في الاستقبال المخصص لمقابلة المدير العام في مباني الشركة بأركويت، وبأدبه الجم تساءل عن الغرض من لقاء المدير العام، حيث كنا قد جئنا وكعادة معظم السودانيين على حين غرة، فاستمع إلينا ورتب لنا اللقاء بالمدير العام وكان ذلك في ذروة اشتعال بركان وباء الكورونا الذي كان يحصد عشرات الأرواح في كل يوم.
عند التحاقي بالشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، توطدت علاقتي بالمهندس منصور صديق الناير لعدة اعتبارات من بينها معرفتي السابقة بوالده القيادي بالحركة الشعبية صديق منصور الناير الذي كان يشغل منصب نائب رئيس المجلس التشريعي لولاية جنوب كردفان عقب اتفاقية سلام نيفاشا، وكنت وقتها مراسلاً لقناة الشروق من كادقلي، وازدات العلاقة تماسكاً بالراحل المقيم المهندس منصور صديق الناير داخل الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، بحكم أن إدارة الإعلام والعلاقات العامة بالشركة، تتبع مباشرة للسيد المدير العام، فكانت الكثير من توجيهات المدير العام الشفاهية تننزل إلينا عبر المهندس منصور صديق، وطوال فترة عمله مديراً لمكتب السيد المدير العام لم نـرَ منه إلا كل تقدير واحترام وبذل الغالي والنفيس من أجل خدمة الكيان، ولعل الكثيرين ممن ترددوا على مكتب السيد المدير العام في تلك الفترة من الضيوف والزملاء، يشهدون على الأدب والذوق والحفاوة والتقدير الكبير الذي يقابل به المهندس منصور الناير، كل من يقصد مكتب المدير العام وما يبسطه من احترام وبشاشة في مقابلة الجميع.
ولما كانت طبيعة العمل داخل أروقة الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة تقوم على نظام التكليف وليس التشريف، فقد تم تحريك المهندس منصور صديق الناير من إدارة مكتب المدير العام ليُكلف بعدها بتشغيل قسم الشؤون الهندسية التابع لإدارة المسؤولية المجتمعية في وقت كانت تواجه فيه الشركة السودانية للموارد المعدنية حملات ممنهجة في منصات التواصل الاجتماعي للنيل منها عبر بوابة المسؤولية المجتمعية نفسها، ونشهد للمهندس منصور الناير أنه أعاد الكثير من التوازن بحركته المكوكية بتفقد مشروعات المسؤولية المجتمعية في عدد من الولايات ولقاءاته المكثفة بأصحاب المصلحة من المجتمعات المحلية وتنويرهم بسير المشروعات وتذليل العقبات التي كانت تواجه تنفيذ بعض هذه المشروعات، وهو أمر ألقى بظلال إيجابية على بث الطمانينة في نفوس المجتمعات المحلية التي تفهمت وهضمت طبيعة العمل، فكانت خير معين وسند للشركة السودانية ومازالت، خاصة بعد صدور القرار رقم ٩٠ الذي تنزَّل برداً وسلاماً على هذه المجتمعات في توظيف أموال المسؤولية المجتمعية وفقاً لاحتياجاتها الضرورية.
التوطد والتمدد والعمق الذي لازم علاقات الراحل المقيم المهندس منصور صديق الناير بالمجتمعات المحلية، دفع المدير العام مبارك أردول إلى اتخاذ قرار شجاع بتكليف المهندس منصور بإدارة مكتب الشركة السودانية للموارد المعدنية بولاية كسلا ليكون أصغر مدير يتقلد هذا المنصب، ولن أذيع سراً إذا قلت إنني قد أشفقت على الشاب الذي أقدم على تحمل مسؤولية تنوء بحملها الجبال، ولكن المهندس منصور وكالعادة فاجأ الجميع بهمته العالية ونشاطه الدفّاق وحماسه منقطع النظير، فانطلق يؤسس لمرحلة جديدة يدخلها مكتب الشركة السودانية بتطوير العمل في قطاع التعدين بولاية كسلا، وتأطير علاقة متميزة مع المجتمع المحلي تقوم على الشفافية في توظيف أموال المسؤولية وفق حاجة المجتمع المحلي، فاستطاع خلال فترة وجيزة أن يخطف قلب المجتمع المحلي، ويخطب ود ومحبة قيادات الإدارة الأهلية في المناطق المنتجة بولاية كسلا، كيف لا والخيل معقودٌ بنواصيها الخير، وقد كان المهندس منصور الناير، خيراً، متواضعاً، متأدباً، مستمعاً جيداً لهذه المجتمعات ومجتهداً في محاولاته لحلحة مشاكلهم وإزالة ما يواجههم من مشكلات وعقبات.
وعلى المستوى الشخصي كان المهندس منصور الناير متواصلاً معي بشكل مستمر فيما يلي التخطيط للبرامج الإعلامية التي تستوعب الأنشطة التي كان ينفذها مكتب الشركة بالتعاون مع الأجهزة المختصة في ولاية كسلا، وأذكر أن الراحل المقيم كان حريصاً على أن يتم نشر وتوثيق كل ما يقوم به من أنشطة وبرامج على صفحة الشركة على منصة فيسبوك وعلى موقع الشركة الإلكتروني ولا يفتر من ملاحقاتنا عبر الهاتف أو رسائل الواتساب حتى يرى النشاط الذي نفَّذه منشوراً على صفحة الشركة على منصة فيسبوك وعلى موقع الشركة الإلكتروني.
ولما كان كل من يشتغل في قطاع المعادن، مُواجَهٌ بالاصطلاء بوهج النيران، فقد واجه الراحل المقيم نيران مستعرة من حملات مغرضة على منصات التواصل الاجتماعي، هدفت إلى تثبيط همته العالية وتكدير صفو علاقته بالمجتمع المحلي في ولاية كسلا، فاتصلتُ به وكان مهموماً وحزيناً ولكنه طمأنني بأن استهدافه هذا لن يُقعده عن الاستمرار في خطته للنهوض بقطاع المعادن في ولاية كسلا، وأخبرني أن المدير العام مبارك أردول اتصل به وكان وقتها خارج السودان وقال له (طالما هبوشك، معناها إنت شغال، قدااااام يا منصور)، وبالفعل مضى الرجل ولم يكترث بحملة الاستهداف التي واجهها الراحل المقيم بالمزيد من الاجتهاد والعمل الجاد من أجل تحقيق النجاحات ووضع بصمة من الإنجازات، وهذا ما تم فعلياً خلال فترته القصيرة التي مكثها في ولاية كسلا، وتشهد على إنجازاته المجتمعات المحلية والإدارات الأهلية التي نعته باكيةً أسفة ومتحسرة على فقد شاب اتسم بالوطنية وحسن النية والإخلاص والهمة العالية والبشاشة والاجتهاد في مساعدة الغير.
أشهد ولعل الكثير من الزملاء ممن يعرفون الراحل المقيم عن قرب يشهدون معي، أن منصور كان باراً بوالديه، وكان كثير الحديث عنهما، ويحرص على أن يعرَّف الزملاء في الشركة بأخوته ووالدته كلما زاروه في مباني الشركة بالخرطوم،
ويكفي منصور أنه كان يجتهد على السفر إلى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، ليقضي إجازته في كنف والده المناضل كمرد صديق منصور الناير، الذي أثق في إيمانه وقدرته على تحمل الصدمة المدوية بفقد اثنين من فلذة كبده في لحظة واحدة، نسأل الله أن يثبَّته ويربط جأشه ويقويه على تحمل الفاجعة، وعلى إسناد الوالدة الأستاذة (ناجدة) التي أعلم مدى تعلقها بأبنائها وحديثها الدائم عن نجاحاتهم والنابض بحب استثنائي، وفرح خرافي.
اللهم نسألك أن تربط على قلب هذه الأسرة المكلومة، وتقوِّيها على التحمُّل والتجلُّد والصبر على الابتلاء، نسألك اللهم أن تتقبل المهندس منصور صديق منصور الناير، وشقيقته الدكتورة منار صديق منصور الناير، وابن خالتهما مالك، اللهم تقبلهم جميعاً برحمتك الواسعة، وأغفر لهم وارحمهم واسكنهم فسيح جناتك مع النبيين والصديقين والصالحين والشهداء وحسن أؤلئك رفيقا، اللهمّ يمّن كتابهم، ويسّر حسابهم، وثقّل بالحسنات ميزانهم، وثبّت على الصّراط المستقيم أقدامهم، وأسكنهم في أعلى الجنّات، بجوار حبيبك المصطفى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.