الحدود المنهارة: الحرب السودانية كمنصة لتفكك النظام الإقليمي في إفريقيا

بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في مركز فوكس للبحوث، وباحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب – السويد
لم تعد الحرب في السودان مجرد أزمة داخلية عابرة أو تمرّد على سلطة مركزية. ما بدأ كصراع مسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، سرعان ما تطور إلى حرب مفتوحة ذات امتدادات إقليمية خطيرة، تتجاوز الحدود الجغرافية والسيادية، وتهدد بتفكيك النظام الأمني والسياسي الهش في إفريقيا. أصبح السودان بؤرة لتقاطع مصالح قوى متعددة، ونقطة انطلاق لتصدير الفوضى نحو المحيط القاري، في لحظة تشهد فيها القارة ضعفًا غير مسبوق في آليات الردع الجماعي.
منذ يونيو 2025، بات التوسع العسكري لقوات الدعم السريع إلى المثلث الحدودي بين ليبيا ومصر والسودان مؤشرًا بالغ الخطورة. التوغل المشترك مع وحدات تابعة للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر نحو منطقة جبل العوينات لم يكن مجرد محاولة تأمين لوجستي، بل مثّل تحولا نوعيًا في ديناميات الحرب. هذه المنطقة ليست فقط بوابة جغرافية، بل عقدة استراتيجية تتحكم في مسارات الذهب، وطرق التهريب، وخطوط الإمداد بين الصحراء والساحل. إدخال مصر، وإن بصورة غير مباشرة، في مرمى العمليات العسكرية يفتح أبواب تدخلات جديدة، ويزيد من تعقيد توازنات الإقليم الذي يعاني أساسًا من فراغ استراتيجي بعد الانكفاء الأميركي والانشغال الدولي بملفات أخرى.
الحدود السياسية السودانية باتت بلا سيادة فعلية في أكثر من خمسة اتجاهات. تشير تقارير ميدانية إلى أن الدعم السريع يعتمد على أكثر من 12,000 مقاتل أجنبي، بينهم عناصر من المعارضة التشادية، ومرتزقة من النيجر وإفريقيا الوسطى ومالي ونيجيريا. وتشير التقديرات إلى أن 40% من المقاتلين غرب دارفور ليسوا سودانيين. هذه التركيبة تجعل من قوات الدعم السريع جيشًا غير نظامي عابرًا للحدود، يعيد تدوير مقاتلين من بؤر التوتر الإفريقية، ويشكل تهديدًا مزدوجًا للدول المجاورة: داخل السودان عبر العمليات العسكرية، وداخل بلدانهم الأصلية عند عودتهم بخبرات حربية عالية وسلاح غير مراقب.
جنوب السودان يمثل بؤرة اشتعال محتملة أخرى. في مارس الماضي، دخلت القوات الأوغندية إلى ولايات أعالي النيل بذريعة دعم حكومة جوبا، ما أثار رد فعل إثيوبي سريع تمثل في تحشيد عسكري عند الحدود، وإصدار تحذيرات شديدة اللهجة. ما يبدو صراعًا على النفوذ الإثني يخفي في جوهره مواجهة جيوسياسية بين مشروعين: إثيوبيا التي تسعى إلى منع تطويقها من الغرب، ومحور أوغندي–إريتري يحاول التمدد نحو البحر الأحمر، وربما التأثير على ممرات التجارة الحيوية.
وفي العمق الجنوبي الشرقي، يتجلى الصراع بأشكال أكثر تطورًا. في مايو 2025، اتهمت الحكومة السودانية جهات إقليمية باستخدام قواعد في “أرض الصومال” لإطلاق طائرات مسيّرة استهدفت منشآت حيوية في مدينة بورتسودان. لم تسمِّ الحكومة الفاعلين، لكن الدلائل الإقليمية تشير إلى تصفية حسابات بين أطراف تسعى لاختبار قدراتها في فضاء لا يخضع لأي رقابة دولية. تتحول الأراضي السودانية إلى حقل تجارب للطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية، في ظل غياب قدرة الدولة على الرد أو حتى الحماية الذاتية.
تشاد وإفريقيا الوسطى ليستا بمنأى عن هذه التداعيات. فالمعارضة التشادية التي شاركت في القتال داخل السودان، بدأت العودة إلى أراضيها معززة بالخبرات والسلاح. التقارير تفيد بتشكيل معسكرات جديدة قرب الحدود، في تحركات تشير إلى نوايا لإعادة فتح الجبهة مع النظام في نجامينا. في إفريقيا الوسطى، شوهدت تحركات لمجموعات مسلحة تتسلل من جنوب دارفور إلى مقاطعاتها الشمالية الشرقية، في ظل تراخٍ أمني شبه كامل، ما يهدد بخلق سلسلة صراعات جديدة خارجة عن السيطرة.
من جهة أخرى، تعيش القارة حالة من الفراغ الاستراتيجي. الولايات المتحدة عبر قيادتها لأفريكوم أعلنت في مايو أنها ستتوقف عن تقديم الدعم العسكري المباشر، وستكتفي بتبادل المعلومات الاستخبارية. أما الاتحاد الإفريقي، فغارق في أزماته المؤسسية وعاجز عن صياغة موقف موحد. وفي ظل انسحاب اللاعبين الكبار، تتسابق قوى إقليمية على ملء الفراغ: بعضها عبر الدعم العسكري غير المعلن، وبعضها عبر التحالفات الميدانية التي تعيد تشكيل خريطة التوازنات في المنطقة.
ما نشهده ليس فقط تفككًا في النظام الإقليمي، بل تصدعًا في الفهم التقليدي للسيادة، والنظام الحدودي، ومفاهيم الردع والشرعية. بات السودان نموذجًا حيًا لما يمكن أن يحدث عندما تنكسر المعادلة المركزية في الدول الهشة، وتغيب الإرادة الدولية عن الاستجابة المبكرة. الحرب التي بدأت بصراع داخلي تحوّلت إلى منصة لانطلاق الحروب بالوكالة، وتداخلت فيها شبكات المرتزقة والتهريب، والتمويل العابر للقارات، مع أجندات دول تتعامل مع السودان كفضاء للمساومة الجيوسياسية.
وفي ظل هذه الصورة المأزومة، يبقى السؤال الأهم: من يملك القدرة على احتواء هذا الانفجار؟ وإذا لم يُبذل جهد منسق وعاجل، فإن الحرب السودانية ستكون الشرارة لحريق إقليمي كبير يعيد إلى الأذهان حروب الكونغو ورواندا، ولكن بنطاق أوسع ومدة أطول، وتداعيات قد تصل إلى البحر المتوسط والساحل الهندي