سواكن .. الأسطورة والميناء!
مكي المغربي
الجلسة في قهوة توتيل في سوق سواكن القديم كانت أشبه بمنتدى نقاش مفتوح، ومن حسن الطالع كان هنالك عثمان باكاش ومحمد أركاب فلم أشعر بالزمن بسبب عمق وأهمية الحديث عن قضايا الشرق والسودان وما تخلله من طرائف وشخصيات مشتركة بيننا، وبعد هذا “السكناب” الرائع، توجهت إلى جزيرة سواكن حيث ينتظرني خادم الجزيرة “شنقراي إبراهيم شنقراي”، هذا الموظف المعتق من “مصلحة الآثار” الذي ولد ونشأ في سواكن ولا يفارقها حتى في موسم الصيف الذي يهاجر فيه أهل الساحل إلى مصايف جبيت وسنكات وغيرها، حيث حازت سنكات في التاريخ القديم على لقب “إسكندرية البجا”، أو المدينة التي لا تعرف الصيف!
أيضا في مقهى آخر في جلسة أنس مع “علي إدريس إبراهيم” تعرفت على “مصيف هقر” في اتجاه جنوب ولاية البحر الأحمر.
طاف بي شنقراي الجزيرة ولم تكتمل الجولة، وبسبب الحر اللافح كنا نطوف قليلا ونعود إلى مكتبه لنشرب الماء، وهذه هي الوصفة الوحيدة لتفادي ضربة الشمس.
ولم أدرك فعلا أن الطقس شديد الحرارة إلا برسالة غاضبة من جوالي أنه يستحسن إغلاق الجهاز بسبب حرارته العالية، وتوقف عن التصوير مع احتمالات بالانفجار.
مكتب شنقراي فيه مجموعة من الآثار أهمها لافتة خشبية مكتوب عليها “نقطة قمرك سواكن” وتعود إلى زمن الإمبراطورية العثمانية الأولى قبل خديوية مصر، حيث كانت هنالك جمارك تدفع للإستانة مباشرة.
وإلى جوار مكتب شنقراي زنزانة عثمان دقنة، غرفة صغيرة وقاتمة للحبس الإنفرادي خصصها الإنجليز لبطل شرق السودان الذي كسر المربع الانجليزي العسكري، ولم يكسره أحد قبله ولا بعده ولكن سمعت أن ملك الزولو في جنوب أفريقيا “شاكا زولو” كسره أو اخترع مربعا عسكريا أقوى منه، وكان للهجوم بينما مربع الجيش الانجليزي لتأمين التحرك والزحف.
وقفت آسفا على حالنا في زنزانة أمير الشرق، وصادف إذان الظهر كأنه يذكرني بأحمد شوقي في “جلق”، فلا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان.
ليت شعري هل كان يعلم مارد سواكن مرعب الإنجليز أن هنالك من أبناء السودان من سيبيع التراب الذي مرغ فيه انف المستعمر، يبيعه فقط للحصول جواز أجنبي؟!
ركزت في جولتي على مبنى البنك الأهلي المصري، وهو أقدم بنك في السودان وشرق أفريقيا، وحسب زياراتي لموانيء شرق أفريقيا، جيبوتي (وقد ألفت كتابا عنها) ومومبسا وغيرهم، لم اشاهد بنكا قديما بالرغم من الاستعمار البرتغالي، فالآثار الموجودة عبارة عن قلاع وحصون برتغالية وعمانية. واللغة السواحيلية هي مزيج موسيقي بين العربي والبانتو و شيء من البرتغالية.
البنك الأهلي المصري من ثلاثة طوابق، مبنى عنيد وقوي، وأحجاره من مرجان البحر ترى عروق الشعب فيه تستهتر بالزمن وكانها خرجت ليلا من البحر إلى الجدران، ولدي تحقيق توثيقي عنه. أعتقد أن المبنى يقع في أرض خورشيد باشا وأحفاده موجودون الآن، وتلك قصة أخرى شرحها لي المهندس والخبير والشاعر، ابن سواكن، أبوبكر الليثي في أمسية بورسودانية جميلة في حي الثورة في منزل نبيل عيد، أن الجزيرة باستثناء مباني الحكومة هي ملكية أفراد، وهذا ما جعل أعمال الترميم تنحصر في قصر الحاكم، والميناء القديم، ومبنى التلغراف، والمسجدين الحنفي والشافعي، ولا صحة البتة عن إستلام شركات تركية بالكامل لمدينة سواكن، ولا يوجد أصلا تعاقد لغير أغراض الترميم ولمباني محددة.
سواكن لا تزال بقططها السوداء التي تجوبها، وغربانها، وأغنامها التي تشرب البيبسي، و”جزيرة الجبرتي” جوار جزيرة سواكن التي يقال أنها مسكونة بالجن.
سواكن جزء من الميثيلوجيا السودانية حيث يقال أن اسمها “سواجن” وهي الجزيرة التي كان يسجن فيها نبي الله سليمان الجن الآبق عن سلطانه!
لم أشعر بهذا الأحساس ولكن عندما تحدق في القطط السوداء وتقف طويلا كأنها تقول لي .. نعم هذا صحيح، اكتبنا معك في هذا العمود!
ميناء سواكن يشهد انتعاشا كبيرا، وهو للركاب ولتصدير الماشية، وفيه رصيف للحاويات وهو للمناولة من أحجام محددة للسفن، ولكن هنالك خطط طموحة للتوسعة واستيعاب “السفن الأمهات” وهي التي تحتاج إلى معدات مناولة عملاقة.
ونواصل