حـدود المنطـق
معركة الكرامة،، مشاهدات قبيل انفضاض الغبــار
إسماعيل جبريل تيسو
ولما كانت النار تجلو الذهب وتُظهر بريقه ونفيس معدنه، فإن القوات المسلحة السودانية كانت ومازالت وستظل تُظهر معدنها النفيس وقيمتها العالية وعقيدتها القتالية متى ما ادلهمَّت الخطوب وصعبت الدروب، واشتدَّت المكاره وتجلّى البأس، فقواتنا المسلحة في الشدة بأس يتجلى، وتزيدها المواقف العصيبة توهجاً وإبهاراً يشُّلُّ قدرة الأعداء وغدر الخونة، قبل أن يدمي أكفَّ الأصدقاء تصفيقاً لبسالةٍ تنتزع الإعجاب، وتأخذ القلوب والألباب.
لقد كان السبت الخامس عشر من أبريل الجاري 2023م، يوماً مختلفاً في تأريخ القوات المسلحة السودانية التي استيقظت صباح هذا اليوم على أصوات قنابل الغدر ودانات الخيانة من قبل ميليشيا الدعم السريع التي قلَبت للجيش ظهر المِجَن وهاجمت قواعده في محاولة بائسة ويائسة للقضاء على القوات المسلحة السودانية، وكتابة صفحة جديدة في سِفر العسكرية تقول بإحلال ميليشيا جهوية، مكان قوات نظامية عُرف عنها البسالة والرجولة والشجاعة والبطولة، وقبل ذلك فهي صمام أمان السودان، وبوتقةٌ لانصهار مكوناته المختلفة، وهي ممسكٌ حقيقي لوحدة السودان وتماسكه.
وشهِد شاهدٌ من أهلها، فقد ذكرت مجلة ( فورين بوليسي) الأمريكية في تقرير لها تناقلته منصات التواصل الاجتماعي بشغف كبير، أن ميليشيا الدعم السريع هي التي بادرت بالهجوم على القوات المسلحة السودانية، واستدلت المجلة الأمريكية في ذلك بأن الهجوم الذي شنته هذه المليشيا، كان هجوماً منسقاً على مقر إقامة قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وعلى مطاري الخرطوم ومروي، وتضيف مجلة ( فورين بوليسي) أن هذه الهجمات المنسقة تؤكد أن حميدتي كان يخطط وينسق للقيام بانقلاب على الجيش السوداني.
وعطفاً على تقرير مجلة ( فورين بوليسي ) الأمريكية، وارتكازاً على تصريحات قادة الجيش بأن قواتهم لم تبادر بإطلاق النار، وفوجئت بهذا الهجوم الغادر، فإن الحقيقة التي لا تخطئها العين أن القوات المسلحة نجحت في اختبار معركة الكرامة الوطنية التي وقعت صبيحة السبت، نجحت في ذلك رغم أن يوم السبت يعتبر عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد، وقد خططت قيادة الدعم السريع لتكون ساعة الصفر في هذا اليوم لشيء في نفوس يعقوب، ولكن يقظة القوات المسلحة فوّتت عليهم هذه الفرصة، ولا يحيق المكر السيئي إلا بأهله.
لقد نجحت القوات المسلحة السودانية ( بمن حضر ) في امتصاص الصدمة، وتعاملت بمهنية عالية في التصدي لهذا الهجوم الغادر، وطبَّقت قواعد الاشتباك من ( المسافة صفر) باحترافية ومهارة عالية أذهلت الجيوش والخبراء العسكريين، وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الجيش السوداني يدار بعقلية محترفة ومشبَّعة بخبرات كبيرة وتكتيكات مذهلة في إدارة الاشتباكات داخل المدن، وبأسلوب خاص ينبغي أن يُدَّرس في كبريات كليات العلوم العسكرية في العالم.
قطعاً هنالك الكثير من المعارك والحروب الأهلية التي خاضها الجيش السوداني على مدى تأريخه الطويل، بيد أن الصدام الذي يدور حالياً مع ميليشيا الدعم السريع، يمثل الأخطر والأقوى والأكبر، لكونه يجري في العاصمة الخرطوم، أكبر مدن السودان، وأكثرها كثافة سكانية، ومؤسسات وبنيات وبنايات رأسية وأفقية، الأمر الذي يعقِّد من سبل التعامل العسكري الحاسم مع الدعم السريع، خاصة مع جنوح الأخير إلى استخدام المواطنين دروعاً بشرية في محاولة جبانة لصد هجوم القوات المسلحة السودانية.
نجحت القوات المسلحة السودانية وبعد ثلاثة أيام حسوما في استلام زمام المبادرة، بعد أن دمّرت عدداً من معسكرات الدعم السريع، وشتت مليشياتها وقطعت عنها الإمداد، ومنعت تواصلها واتصالها مع قيادتها، وأحدثت فيها إنهاكاً بدنياً وذهنياً ونفسياً، بل ودمّرت الإرادة القتالية لهذه المليشيات، وشرعت في تنفيذ المرحلة التالية من تكتيكها العسكري والقائم على دحر وطرد هذه المليشيات من كل المواقع الاستراتيجية التي كانت معنية بحراستها قبل اندلاع الاشتباكات، سواءاً كان ذلك في القيادة العامة ومحيطها، أو القصر الجمهوري، أو مطار الخرطوم، أو مبنى الإذاعة والتلفزيون.
لقد انتهجت القوات المسلحة السودانية في معركتها ضد ميليشيا الدعم السريع، مبدأ ( الحَفْر بالإبــرة) وهو مبدأ عسكري يقوم على سياسة النَفَس الطويل بإعمال قيمة التحمُّل ومد حبال الصبر، وذلك بالحرص الشديد على عدم إلحاق الضرر ومحاولة الحفاظ قدر المستطاع على أرواح وممتلكات المواطنين، وقد نجحت القوات المسلحة السودانية الباسلة في ذلك إلى حد كبير، وحتى عندما استخدم الجيش السوداني الطائرات الحربية واستهدف مواقع الدعم السريع داخل الأحياء، كان ينفِّذ الضربات بخبرة واحترافية عالية، بحيث يصيب الهدف في مقتل، ويقلل في الوقت نفسه من الخسائر المتوقعة في مثل هذه الحرب التي تدور رُحاها داخل المدن.
إن العمليات العسكرية التي نفذها الجيش السوداني ضد ميليشيا الدعم السريع، بدأت تؤتي ثمارها ميدانياً من خلال تراجع العمليات القتالية، وانحسار صوت قائد الدعم السريع ومستشاريه الذين كانوا يطلّون على رأس كل ساعة في القنوات العالمية، لقد بدأت بشريات انتصار القوات المسلحة السودانية تلوح في الأفق من خلال نزول قوات المشاه لبدء عمليات التمشيط على الأرض وفتح المسارات وطرد الدعم السريع من الارتكازات في الشوارع الرئيسة، ولعل ذلك ما دفع قيادة الدعم السريع إلى المسارعة في طرح الهدنة والقبول بالمبادرات الدولية لوقف إطلاق النار والجلوس إلى مائدة التفاوض، بعد أن كانوا يطالبون في بداية المعارك باستسلام قائد الجيش السوداني، ويهددون بالوصول إلى (مخبئه البدروني) حسب تعبيرهم، وكانوا يدّعون في بداية الاشتباكات باستسلام الشرفاء من ضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة وانضمامهم لميليشيا الدعم السريع!
إن الدروس المستفادة من معركة الكرامة الوطنية التي خاضتها القوات المسلحة السودانية بعقيدة قتالية لا تنقصها بسالة وإقدام، تكمن في الالتفاف الكبير الذي لقيته القوات المسلحة من الشعب السوداني الذي التحم معها ودفع من روحها المعنوية بلورةً لمفهوم ( جيشٌ واحد، شعبٌ واحد)
كما أن هذه المعركة أعادت السيرة الأولى للجيش السوداني الذي كان يعتقد فيه ( البعض ) خسراناً مبيناً بعد سنوات عاشها في حضن حقبة الإنقاذ التي تُتهم بزلزلة الجيش وتفريغه من ( رجاله البواسل ) وتكريسه لخدمة أجندات أيدولوجية ومصالح سياسية، ويبقى من الضروري أن تقوم الدولة بمسؤولياتها كاملةً في حماية المواقع الاستراتيجية والمؤسسات الحيوية وتكليف القوات المعنية للاضطلاع بهذه المهمة الوطنية المهمة، وثمة درس أخير ينبغي أن نقول به وهو أهمية تجفيف العاصمة والمدن الكبرى في ولايات السودان المختلفة من الوجود العسكري إلا في حدود ما هو ضروري، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.